سعيد زياد-باحث في الشأن السياسي والاستراتيجي
في ليلة من ليالي آذار قبل عقد من الزمان التقيت بفتاة بثوب خمريّ وشالة بلون رملي، في منزل عمَها (القائد الكبير المعروف في كتائب القسام)، وبحضور والدتها،، كان اللقاء بغرض التعارف لأجل الزواج، فعرّفت بنفسي، وتعارفنا، وتحدثنا، ثم قالت تلك السيدة التي أصبحت لاحقاً حماتي، بإعجاب شديد بقائد الكتيبة الجالس معنا: (إحنا بدنا حد مثل عبد الله وبس).
كان أبو عبيدة معروفاً في أوساط شباب معسكر جباليا بطابعه العسكري، فقد كان يقود 1000 مقاتل ويقضي نهاره بين الجند والعسكر في المواقع العسكرية والأنفاق، ويقضي ليله مرابطاً على الكمائن والثغور، فاستغربت حينها أيّما استغراب من إعجاب أهله به لهذه الدرجة.
شاءت الأقدار بعدها أن أعيش وإياه في بيت واحد، لمدة تزيد عن عام فرأيت من تعامله مع أهله عجباً، فما كان يمشي إلا الهوينا، وما كان ينزل سلم البيت إلا وهو ينشد ويدندن، وما كان يدخل على أهله إلا باسم المُحيّا، وما رأيت له والله موقفاً واحداً علا فيه صوته أو بدا فيه غضبه، وكان لا ينادي زوجتي إلا ب(ريحانة اللّد)، نسبة إلى المدينة التي هجّر منها أجداده، ولا يناديها وأخواتها إلا ب(حبّات القلب) وما يصحبها من أحلى ألقاب الدلال والكُنى.
كان ذوّاقاً في مأكله ومشربه وملبسه ومجلسه، وكان يحب أن يزين له طعامه، ويتأمل الشيء قبل أن يذوقه، عملاً بقول الله: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر)، ومن كلماته التي أذكرها لزوجتي عن هذا: (في ناس بتضيّف فاكهة، وفي ناس بتعرف كيف تُضيّف الفاكهة)
كان نسيماً عليلاً كأرقّ ما يكون عليه النسيم، ومجتهداً على أعظم ما يكون عليه المجتهدون، فما رأيته مرة إلا في شغل، وما رأيت له وقت فراغ قط إلا ملأه بكتابة أو قراءة، وقد كتب دراسة فريدة مُنح على إثرها درجة الماجستير، تناولت أساليب القيادة والسيطرة لكتائب القسام في المعارك الدفاعية، ومن فرط اجتهاده تقبله الله، أن كتب أربعة كُتب في هذه الحرب، نُشر واحد منها، وأسأل الله أن ييسر لنا نشر بقيتها له.
كان أصغر أشقائه العشرة، جميعهم من أنبل الناس وأحسنهم، أبعد الاحتلال أخاه (مصطفى) في مطلع التسعينات لقيادته خلايا للمقاومة، واغتال العدو له شقيقه (فؤاد) مطلع انتفاضة الأقصى، وكان من ألمع القادة العسكريين للمقاومة، وفي هذه الحرب قتلت اسرائيل أخاه (رائد) وعشرين من أفراد عائلته في ضربة واحدة.
لأبي عبيدة ابنتان، (تالا ومريم)، كان متيّماً بهما جدا .. عند ولادة مريم، كنت أول من قابله، فناداني من بعيد: “سعيد تعال بسرعة شوف مريم”، وكان يحملها يكاد يطير بها من الفرح، فقد جاءته على عطش ولوعة بعد قرابة عشر سنين.
يعزّ علينا يا أخي والله ..
فقدك هذا عزيز عزيز، لا يشبه أي فقد ..
قَدْ كُنتُ آمُلُ أنْ أكونَ لكِ الفِدا
مِمّا ألَمّ، فكُنتِ أنْتِ فِدائي
فَارَقْتُ فِيكِ تَماسُكي وَتَجَمّلي
ونسيت فيك تعززي وابائي
كم زفرة ضعفت فصارت انة
تَمّمْتُهَا بِتَنَفّسِ الصُّعَداءِ



