عزات جمال -كاتب وباحث مختص في القضية الفلسطينية
على كارة -عربة مخصصة ليجرها حيوان- أُتبعت لسيارة الأجرة فأصبحت جزء منها، وهي وسيلة ابتكرها الغزيون للمساهمة في حل أزمة المواصلات، المهم جلسنا سوياً في خطين متوازيين، قد أدار كل واحد فينا ظهره للآخر، وأقدامنا متدلية نحو الطريق، سارت العربة متمايلة ولها صرير، يزيده وعورة الطريق الذي طاله الاستهداف هو الآخر، فكل شئ في غزة أتت عليه آلة الإبادة!
المهم انشغل جميع الركاب في الحديث فور تحرك العربة على الطريق، ففي العادة يخفف هذا الحديث عنا ويشغلنا عن أزمة الزحام، ووعورة الطرق، وحرارة الشمس، وانعدام الغذاء، وتردي الخدمات الصحية، واستمرار الإبادة…
ولم يرعى انتباهنا إلا بصوت جوهري؛ يصرخ أنت مجد؟
ألست مجد الناجي الوحيد؟!
اتجهنا بأبصارنا جميعاً نحو الشاب -شاب نحيل في وسط العشرينيات من عمره- فرد الشاب بثقة .. أي نعم صحيح أنا -الناجي الوحيد- مجد من أنت؟!
فأجاب الرجل : ألا تعرفني أنا – أبو ياسر- قريب فلان، ألا تعرفه، نحن جيران وأهل!
صاح -مجد- صحيح … صحيح أهلا وسهلاً.. وأنت والد الشهيد المشتبك في يوم العبور رحمه الله. فأجاب أبو ياسر : نعم صحيح هو وعمه استشهدا رحمهما الله.
شدتنا المحادثة وصمت كل من على العربة؛ عاد مجد للحديث بنبرة حزينة، لقد كان بيني وبين الموت لحظات، فكنت أقف قرب بيتنا وقد خرجت لحاجة على أن أعود – المكون من 5 طبقات- عندما استهدفته الغارة الإسرائيلية.
على الفور دمر البيت وتحول لركام واستشهد 30 فرد من أسرتي -الوالد والوالدة وزوجتي واخوتي وأخواتي وأعمامي وزوجاتهم وأبنائهم- قبل حوالي 100 يوم بالتمام، قضوا جميعاً في ذاك الاستهداف، وأعيش اليوم وحيداً بدونهم؛ على مراحل دفنت بعضهم وما زلت أبحث عن البقية لكي أدفنهم -قاطعه أبو ياسر- كيف تبحث عنهم هل هناك من يساعدك؟
فأجاب الشاب بيدي أحاول تكسير الحجارة وبمعدات بسيطة، فأنت تعلم لا وجود للامكانيات في غزة، بعد استشهادهم بأسبوع استطعت ايجاد إحدى اخواتي فدفنتها وبعد شهر استطعت استخراج جثمان زوجتي -وقد كانت على حالها سوى وجهها الذي تمزق- دفنتها هي الأخرى، وقبل يومين استطعت ايجاد أختي الصغرى فقد قمت بإخراج ما تبقى منها ودفنه، وها أنا أحاول البحث بما أستطيع لأجد البقية لأدفنهم بما يليق بكرامتهم.
قد كانت الكلمات تخرج من -مجد- مثقلة، تُحس فيها القهر والخذلان والألم، ونحن نستمع لهذه المأساة التي ما زالت فصولها قائمة، يرويها بطل الحكاية بوجعه المستمر وگأن جرحه ينزف دماً، وجل أمانيه أن يدفن من أحبهم، ويعرف لهم قبر!



