مكتب غزة – قلمي بندقيتي
على مدار عامين من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، واجهت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” انتقادات متزايدة من سكان القطاع، بسبب صمتها إزاء تجاوزات بعض الخارجين عن القانون الذين استغلوا ظروف الحرب، فمارسوا العربدة والسيطرة على المساعدات الإنسانية. وقد أدى ذلك إلى تفاقم أزمة الجوع، ووقوع عشرات الشهداء عند نقاط توزيع المساعدات، سواء في منطقة “النابلسي” غربًا أو في “سوق السيارات” شرق المدينة، حيث تحوّلت طوابير الانتظار الطويلة إلى ساحات موت بسبب الفوضى المنظمة التي خلّفها الحصار.
في تلك الفترة، كما يوضح قادة ميدانيون في حركة “حماس”، فضّلت الحركة عدم فتح جبهات داخلية جديدة أثناء العدوان، حرصًا على عدم كشف مواقع مقاتليها أو تحركاتهم في ظل المعارك المتواصلة مع جيش الاحتلال، وهو ما سمح لعصابات محلية بالتمدد والسيطرة على مسارات الإغاثة. غير أن الأحداث اللاحقة، بحسب المصادر ذاتها، أظهرت أن هذه العصابات كانت مدعومة من جيش الاحتلال بهدف إرباك الجبهة الداخلية وضرب وحدة المجتمع الغزي من الداخل.
تحرّك ميداني حاسم بعد وقف إطلاق النار
مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، يوم الجمعة الماضي، بدأت الحركة بتنفيذ ما وصفه أحد قادة “كتائب القسام” بأنه “عملية تطهير داخلية دقيقة”. وقال القائد الميداني في تصريحات خاصة لوكالة “قدس برس” إن المقاومة كانت جاهزة منذ اللحظة الأولى لـ”تصفية الحساب مع العصابات التي استباحت أرزاق الناس ودماءهم”، مضيفًا أن الحملة “تمكنت خلال 48 ساعة من القضاء على أغلب البؤر الإجرامية، مع بقاء جيوب صغيرة يجري التعامل معها بحذر”.
وأشار القائد إلى أن الحملة استهدفت عصابات محددة “تحصنت داخل عائلات كبيرة واستخدمت المدنيين دروعًا بشرية”، مؤكدًا أن العملية نُفذت “بدقة وتنسيق أمني عالي لتجنّب أي خسائر بين الأهالي”.
اقتصاد الفوضى: من الليمون إلى المساعدات
تجسّد فوضى تلك المرحلة في شهادة تاجر من غزة روى لـ”قدس برس” كيف تحوّلت الأسواق إلى مناطق نفوذ مسلحة. يقول الرجل: “في ذروة المجاعة التي ضربت شمال القطاع قبل أكثر من عام، أحضرت كمية من الليمون لبيعها بسعر التكلفة في سوق شارع المغربي بحي الصبرة، لكن عناصر مسلحة من عائلة دغمش اعترضوني ومنعوني من البيع، وقالوا إن المنطقة تحت سيطرتهم”.
ويضيف: “أجبروني على بيع الكمية لهم بسعر بخس لا يتجاوز 6 شواكل للكيلو الواحد (1.8 دولار)، ثم باعوها بعد ساعات بـ45 شيكل (13 دولارًا) في السوق السوداء”.
لم تتوقف الانتهاكات عند هذا الحد. فبحسب إفادات ميدانية وشهادات متعددة، كان أفراد من العائلة ذاتها يعترضون قوافل المساعدات القادمة من نقطة “النابلسي” القريبة من مربعهم السكني، ويفرغونها في مخازن خاصة، قبل بيعها بأسعار خيالية. وصل ثمن كيس الطحين الواحد في تلك الفترة إلى ألف دولار أمريكي، في وقت كان الأطفال يموتون جوعًا في مخيمات الشمال.
خيانة المقاومة وسرقة العتاد
مصدر في حركة “حماس” كشف لـ”قدس برس” أن بعض العناصر المسلحة من هذه العائلة تورطوا في جرائم أخطر بكثير من النهب والابتزاز، إذ سرقوا عتادًا عسكريًا تابعًا للمقاومة في ديسمبر 2023 من منطقة جنوب غرب غزة، كما قاموا بتفكيك عبوات ناسفة كانت معدة لاستهداف الدبابات الإسرائيلية في محور “تل الهوا”، ما سهّل توغّل القوات الإسرائيلية إلى داخل المنطقة.
وأوضح المصدر أن هذه الحادثة “عرّضت حياة عشرات المقاتلين للخطر حينما حاولوا استعادة العتاد المفقود، ليكتشفوا أن الاحتلال دخل المنطقة بفضل الخيانة”. وبعد انكشاف أمرهم، سهّل جيش الاحتلال فرار أفراد العائلة المتورطين إلى مناطق الجنوب، وفق المصدر ذاته.
ولم تقتصر الجرائم على ذلك، إذ سلب بعض أفراد العائلة شاحنات المساعدات الموجّهة إلى المستشفى الميداني الأردني القريب من مربعهم، وهاجموا طواقمه بالسلاح عدة مرات، رغم أن المستشفى كان يخصص جزءًا كبيرًا من موارده لمساعدة سكان الحي ذاته.
مواجهة مؤجلة وانفجار داخلي
مع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، بدأت المقاومة عملية ميدانية ضد هذه العصابات بعد استنفاد كل المساعي السلمية. وأكد المصدر أن “وجهاء العائلة الذين جرى التواصل معهم أعلنوا صراحة أنهم غير قادرين على ضبط هؤلاء الخارجين عن القانون”. وقال أحدهم لمراسل “قدس برس”: “هؤلاء الأولاد السفلة شوّهوا سمعة العائلة وورطونا في مشاكل كبيرة، سواء مع الحكومة أو مع العائلات الأخرى”.
وأوضح الوجيه نفسه أنهم حاولوا مرارًا “منع المواجهة حفاظًا على الدماء”، لكن الأمور خرجت عن السيطرة “حين تحول هؤلاء إلى قطاع طرق، وسرقوا شاحنات المساعدات، وقتلوا عناصر من وحدة (سهم) التابعة لجهاز أمن المقاومة أثناء قيامهم بواجبهم”.
وجاء الهجوم الواسع الذي شنته المقاومة، وفق المصادر، بعد أن رُفع الغطاء العائلي عن الخارجين على القانون. وأسفرت العملية خلال أيام قليلة عن مقتل 29 شخصًا من العائلة، واعتقال نحو 60 آخرين، والعثور على كميات كبيرة من الأسلحة المتطورة ووثائق تثبت تلقيهم دعمًا مباشرًا من الاحتلال لإثارة الفوضى.
لا “حرب أهلية”.. بل فرض النظام
رفضت مصادر في المقاومة وصف ما جرى بأنه “حرب أهلية”، مؤكدة أنه “عمل أمني منضبط يهدف إلى استعادة الأمن الداخلي وضبط الفوضى التي غذّاها الاحتلال خلال الحرب”. وشددت المصادر على أن العملية تأتي في إطار “تنفيذ القانون وحماية المواطنين من العصابات الإجرامية”، مؤكدة أن “حماس لن تسمح لأي جهة خارجة عن القانون بتهديد أمن الناس أو المساس بكرامتهم”.
تأييد وطني لجهود الداخلية
وفي سياق متصل، أشادت القيادة المركزية لتحالف القوى الفلسطينية —الذي يضم عشر فصائل— بالجهود التي تبذلها وزارة الداخلية في غزة، ممثلة بجهاز الشرطة، لتعزيز الأمن والاستقرار في ظل الظروف القاسية التي يعيشها القطاع تحت الحصار والدمار.
وأكد التحالف، في بيان صدر أمس الأربعاء، أن “الانتشار المكثف والمنظّم لعناصر الشرطة في شوارع غزة ومفترقاتها بعث الطمأنينة في نفوس المواطنين، وساهم في تعزيز السلم الأهلي في مرحلة حساسة ودقيقة”.
وأشار البيان إلى أن الإجراءات التي اتخذتها الوزارة لحماية قوافل المساعدات وضمان وصولها إلى مستحقيها “تعكس مستوى عاليًا من المسؤولية والشفافية”، معتبرًا أنها جزء من الجهد الوطني العام لحماية المجتمع والحفاظ على الجبهة الداخلية.
كما أعلن التحالف دعمه الكامل للخطوات القانونية المتخذة بحق “المجرمين والمتعاونين مع الاحتلال”، مؤكدًا أن المحاسبة الصارمة “تُعدّ واجبًا وطنيًا لحماية وحدة الشعب وكرامته”.
ودعا البيان إلى مواصلة “السياسة الأمنية المتوازنة التي تجمع بين حماية الجبهة الداخلية وصون الحريات العامة”، وإلى تعزيز روح التكافل والتلاحم الشعبي في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر.
ما بعد شرم الشيخ: اتفاق هش وإبادة مستمرة
وفي التاسع من أكتوبر الجاري، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوصل إلى اتفاق بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة “حماس” على المرحلة الأولى من خطة وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بعد مفاوضات غير مباشرة في مدينة شرم الشيخ، بمشاركة تركيا ومصر وقطر.
وبموجب الاتفاق، سلّمت المقاومة الفلسطينية جثامين 28 أسيرًا لديها، مقابل إفراج سلطات الاحتلال عن جثامين شهداء من غزة استشهدوا خلال حرب الإبادة. كما أفرجت “حماس” عن 20 أسيرًا إسرائيليًا أحياء، بينما ما تزال إسرائيل تحتفظ بجثامين 24 آخرين فقط.
لكن على الأرض، لم يتغيّر شيء من الواقع الكارثي. فالحصار مستمر، والمساعدات محدودة، والدمار ما زال يلتهم ما تبقى من مدن القطاع.
إبادة لم تتوقف وصمود لا ينكسر
منذ السابع من أكتوبر 2023، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي —بدعم أمريكي وأوروبي مباشر— حرب إبادة شاملة ضد سكان قطاع غزة، شملت القتل والتجويع والتدمير والتهجير والاعتقال، متجاهلة كل النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقف العدوان.
وأسفرت الإبادة حتى الآن عن أكثر من 238 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب أكثر من 11 ألف مفقود، ومئات آلاف النازحين الذين يعانون من مجاعة وأوبئة. فيما تحوّلت مدن القطاع إلى أنقاض شبه كاملة، في محاولة واضحة لمحو غزة من على الخريطة.
ورغم هذا المشهد المأساوي، تؤكد غزة مجددًا أنها مدينة لا تنكسر، فكما قاومت الاحتلال بسلاحها، ها هي اليوم تقاوم الفوضى من داخلها، لتثبت أن صمودها ليس فقط في وجه العدو، بل في وجه الخراب الذي يحاول اقتلاعها من جذورها.